صفي الدين الحلي- بين الفخر بالعوالي والغزل بالوطن

المؤلف: عزيزة المانع08.17.2025
صفي الدين الحلي- بين الفخر بالعوالي والغزل بالوطن

صفي الدين الحلي، قامة شعرية عراقية تألقت في القرن الثامن الهجري، كانت بدايتي معه في رحاب المدرسة الثانوية، حالي كحال أبناء جيلي. قصيدته المدوية "سلي الرماح"، قصيدة الفخر والاعتزاز، كانت جزءًا من مناهج الأدب المقررة في تلك الفترة. هي قصيدة شامخة، يستهلها الشاعر مخاطبًا محبوبته بزهو: "سلي الرماح العوالي عن معالينا،، واستشهدي البيض، هل خاب الرجا فينا" و "سائلي العرب والأتراك ما فعلت،، في أرض قبر عبيد الله، أيدينا". لكن سرعان ما يعود الشاعر لرشده، خشية أن تتهمه الحبيبة بالعدوان والظلم، فتنفر منه، فيرد قائلا: "إنا لقوم أبت أخلاقنا شرفا، أن نبتدي بالأذى من ليس يؤذينا" و "بيض صنائعنا، سود وقائعنا، خضر مرابعنا، حمر مواضينا".

هذه القصيدة الرائعة، رغم ما تحمله من صور العنف، لاقت انتشارًا واسعًا بين الناس، وأثارت إعجابهم العميق، لما تزرعه فيهم من مشاعر الفخر والاعتزاز بالنفس. لكن هذا الإقبال الجماهيري الكبير طغى على بقية قصائد صفي الدين الأخرى، على الرغم من أن لديه روائع غزلية أخرى لا تقل روعة، مثل قصيدته "قالت"، التي أبدع في غنائها الفنان المصري القدير محمد عبد الوهاب، فزاد أداؤه الساحر من جمالها، وأصبح المستمعون إليها يزدادون تعلقًا بها وإعجابًا بجمالها الأخاذ.

قصيدة "قالت" تصور عتابا رقيقا من الحبيبة للشاعر، بسبب ما لمسته من فتور في حبه، بعد أن اعتادت منه شغفه المتوقد وهيامه الدائم. ومن أروع أبيات القصيدة قوله:

"قالت: تسليـت بعــد فرقتنـا! فقلت: عن مسكنــي وعن سكنــي"

"قالت: تناسيت! قلت: عافيتي،،، قالت: تناءيت! قلت: عن وطني"!

يا لهذين البيتين من جمال! أراهما من أروع ما قرأت في شعر الحب. فالشاعر في البيت الأول يرى في حبيبته المسكن والسكن، بما يمثله ذلك من راحة واطمئنان ودفء، إنه حب لروح الحبيبة لا لجسدها الفاني، حب خالص من التعلق بالجمال الحسي الزائل.

وفي البيت الثاني، يوضح الشاعر أن ابتعاده عن الحبيبة يجعله يشعر بالغربة المرة، وتطبق عليه الوحدة القاتلة، ويسيطر عليه التشرد والضياع! فبعده عن الحبيبة هو بعد عن الوطن، بل هو عين البعد عن الوطن، فقد تماهت صورة الحبيبة في قلب الشاعر مع صورة الوطن بكل ما يحمله من أمان وسلام وألفة ومحبة. فالحبيبة هي الوطن، والشاعر هو الغريب المشرد النائي عن وطنه الحبيب!!

أي حب أسمى من هذا! أن يتخذ الشاعر من حبيبته وطنًا! وأي مكانة أرفع من تلك التي تطمح إليها الحبيبة، أكثر من أن تكون وطنًا لمن تحب!

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة